شعر الأرض المحتلّة... حوار مع غسّان كنفاني | أرشيف

غسّان كنفاني (1936 - 1972)

 

المصدر: «مجلّة مواقف».

العنوان الأصليّ: «شعر المقاومة كما يراه غسّان كنفاني».

زمن النشر: 1 حزيران (يونيو) 1970.

 


 

 

* يوجد حركة شعريّة من نوع آخر في فلسطين المحتلّة، هي حركة ’الشعر الحكوميّ‘.

* أيّ عمل فنّيّ جيّد يحمل في ذاته تأثيراته. 

* في «ما تبقّى لكم» دعوت إلى المساواة بين عدوّين، إسرائيل والرجعيّة المتواطئة، وما تزال هذه الدعوة قائمة. 

 

مواقف: إلى أين وصل شعر المقاومة فنّيًّا؟

غسّان: إنّه بلا ريب شعر متقدّم من الناحية الفنّيّة، إنّ هذا الوصف طبعًا لا ينطبق على كلّ ذلك الشعر؛ فشأنه في ذلك شأن أيّ حركة شعريّة في أيّ مكان، لكنّ أسماء بارزة مثل حنّا أبو حنّا وسميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زيّاد تظلّ أسماءً مهمّة فنّيًّا في حركة الشعر العربيّ، ليس في فلسطين المحتلّة وحدها بل في الوطن العربيّ كلّه.

ما أريد أن أقوله في هذه المناسبة هو إنّه يوجد حركة شعريّة من نوع آخر في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، هي حركة ’الشعر الحكوميّ‘، إذا جاز التعبير؛ فثمّة شعراء عرب عديدون يجنّدون صوتهم الشعريّ إلى صفّ الاحتلال، ذلك شيء لا يشير إلى سقوط أخلاقيّ فحسب، بل إلى سقوط فنّيّ أيضًا. إذا وضعنا شعر المقاومة العربيّ مقابل ذلك النوع من النظم، للاحظنا ذلك بوضوح، إنّ شعر المقاومة ليس متفوّقًا من الناحية الأخلاقيّة والإنسانيّة وحدها، لكنّه متفوّق بلا مقارنة من الناحية الفنّيّة أيضًا.

ذلك يشير إلى شيء مهمّ، وهو أنّ التفوّق الفنّيّ مسألة مرتبطة أساسًا بالأصالة. إنّه من الصعب أن يكون الأدب المتفوّق فنّيًّا أدبًا غير ثائر سياسيًّا واجتماعيًّا وغير ملتزم إنسانيًّا؛ المسألتان مرتبطتان بصورة عضويّة، والمثال الّذي أعطيته ليس مصادفة.

 

مواقف: الشكل التقليديّ يغلب على أكثريّة شعر المقاومة، كيف تفسّرون ذلك؟

غسّان: كان الأمر كذلك قبل سنوات، لكنّه ليس كذلك الآن. إنّ الخطوات الفنّيّة الّتي قطعها شعر المقاومة داخل الأرض المحتلّة نحو صيغ متقدّمة من ناحية الشكل هي خطوات لافتة للنظر. إنّها، على أيّ حال، متّسقة مع الخطوات المماثلة في البلاد العربيّة. قد يكون تأخّرها قليلًا ناتجًا عن العزلة الّتي عانى منها عرب الأرض المحتلّة في العشرين سنة الماضية، لكنّ تلك الخطوات جاءت، في الحقيقة، مذهلة السرعة من ناحية المقارنة، وقياسًا على ’القطيعة‘ القائمة بينهم وبيننا.

إنّ لمحمود درويش إنجازات مهمّة في هذا النطاق، ومؤخّرًا صدر ديوان شعر لشابّ اسمه ميشيل خوري، من حيفا على ما أعتقد، اسمه «الدرج النازل إلى أغوارنا»، وهو مجموعة من قصائد النثر المكتوبة جيّدًا من الناحية الفنّيّة، وتوازي الجهد المماثل الّذي يظهر في الدول العربيّة.

 

مواقف: كيف تنظرون إلى أدب ما بعد الخامس من حزيران داخل الأرض المحتلّة، وهل توصّل هذا الأدب إلى الرؤيا الشموليّة الّتي يتميّز بها ’أدب المقاومة العالميّ‘ في هذا القرن؟

غسّان: لا أستطيع أن أجد خطًّا فاصلًا، بالشكل الّذي يوحيه السؤال، بين شعر المقاومة في فلسطين المحتلّة قبل وبعد حزيران، ليس على الأقلّ بالصورة الّتي افتعلت بالنسبة للأدب العربيّ خارج فلسطين. في الواقع، فقد كان الإنجاز الشعريّ لشعراء فلسطين المحتلّة منذ البدء مسلّحًا بالوعي. الكارثة لم تفاجئهم بالصورة الّتي فاجأتنا، ولا الثورة. كانت حياتهم نضالًا متّصلًا انعكس في شعرهم، واستمرارهم الآن ليس إلّا حلقة جديدة منطقيّة الظهور في سلسلة إنجازاتهم الفنّيّة.

أمّا في ما يتعلّق بالشقّ الآخر من السؤال، لم أفهم على وجه التحديد قولك: "الرؤيا الشموليّة الّتي تميّز بها أدب المقاومة العالميّ"، في الواقع، فإنّ أدب المقاومة الفلسطينيّ كان يتميّز منذ البداية بثلاثة أمور جوهريّة هي الّتي رسّخته وأعطته قيمته، وهي أوّلًا، رفض الاحتلال والصمود أمام التذويب، وثانيًا، اليساريّة الّتي جعلته يغوص إلى أعماق الأشكال وليس الاكتفاء بالانزلاق على قشرة المظاهر والحماسة، ثالثًا، انفتاحه على الحركات الثوريّة في العالم، واعتبارها جزءًا من الجهد المقاوم الّذي يبذله الإنسان، بغضّ النظر عن مواقعه الجغرافيّة.

إذا كان هذا هو المقصود بـ "الرؤيا الشموليّة" في سؤالك، فإنّ شعر المقاومة هو كذلك. ولست أدري كم في هذا الحكم من انفعال شخصيّ، لكن بالنسبة إليّ، فإنّني أرى في أدب المقاومة العربيّ في فلسطين المحتلّة علامة بارزة وطليعيّة ومتقدّمة في تراث آداب المقاومة العالميّة.

 

مواقف: محمود درويش، كما يبدو لنا، شاعر المقاومة الأوّل، لكنّه في بعض قصائده، يصل إلى السرد والتكرار والتشبيه، هل تعتقد أنّه متأثّر بشكل أو بآخر، بالمدارس الشعريّة الكلاسيكيّة؟

غسّان: أخشى أن يكون رأيي معاكسًا، فأنا لا أرى في شعر محمود درويش تكرارًا وسردًا، بل على العكس، أرى فيه طاقة غير عاديّة على التجدّد والعمق. إنّ ’التشبيه‘ في شعره هو إنجاز رمزيّ، لذلك فإنّ من الصعب وصفه بالتأثّر الكلاسيكيّ، وربّما كان ذلك التشبيه بالذات هو أحد الإنجازات المهمّة الّتي قام محمود درويش بها في عمله الشعريّ؛ فالتشبيه بالنسبة له هو ’ترميز‘، أو بالأحرى هو إطلال على أفق رحب، ونقل ما هو واقعيّ إلى ما هو رؤيا وموقف وقرار.

 

مواقف: هل شعر المقاومة يؤثّر على تحرّكات الطلّاب في العالم ويدفعهم إلى الثورة على الأوضاع الاجتماعيّة السائدة؟

غسّان: أيّ عمل فنّيّ جيّد يحمل في ذاته تأثيراته، وعلى هذا الأساس فإنّ شعر المقاومة يؤثّر بلا ريب على تحرّكات الطلّاب، الّذين هم حملة ألوية الرفض.

إنّ التعبير ’شعر المقاومة‘ سنستخدمه هنا بمعناه الأشمل، بمعنى الرفض والثورة ورفض رواسب العفن الماضي والطموح إلى عالم أفضل. إنّ ذلك كلّه هو في هذا العصر، بدرجة أو بأخرى، محرّك الغضب الطلّابيّ الّذي بات يأخذ شكل تقدّم طليعيّ في حركة المجتمع، من هنا، فإنّ شعر المقاومة، بذلك المعنى، هو إسهام في عمليّة التحريك تلك.

بالنسبة لنا، فلا ريب أنّ ما يحرّك شعراء المقاومة هو ذاته ما يحرّكنا، بدرجة أو بأخرى، بالتالي، فإذا أعاد لنا هؤلاء الشعراء حوافزنا الكامة في إطار من الجمال والوضوح فإنّهم يضاعفون طاقاتنا ويسهمون في بلورة تحرّكنا.

 

مواقف: كيف تقابل بين نتاجك زمن النكبة، ونتاجك ما بعد الخامس من حزيران؟

غسّان: لا أستطيع، لكنّني أعرف تمامًا أنّ المسألة إليّ لم تتغيّر إلّا بمقدار ما تغني التجربة ويطوّر الواقع الموضوعيّ الرؤيا الفنّيّة عند أيّ كاتب.

في الواقع، لست أدري إن كان نتاجي قبل كارثة حزيران منفصلًا عن الواقع الّذي أدّى لها. في «رجال في الشمس» (1963) دعوت بصوت شديد العلوّ إلى المقاومة والعنف. هل كان ذلك تنبّؤًا أم مجرّد استنباط لحركة الواقع؟ في «ما تبقّى لكم» دعوت إلى المساواة بين عدوّين، إسرائيل والرجعيّة المتواطئة، وما تزال هذه الدعوة قائمة، والرؤيتان كُتِبَتا، كما ترى، قبل حزيران.

يعتقد الجنرال ماتتياهو، وهو جنرال صهيونيّ، في دراسة كتبها مؤخّرًا في صحيفة «معاريف» الصهيونيّة، أنّ رواياتي هي شهادة على عدم انحدار الشخصيّة الفلسطينيّة، أمّا الناقد الصهيونيّ شيمون بلاس، فقد كتب في «مجلّة إسرائيل» (1968): "روايات غسّان كنفاني تنبض بروح قتاليّة واللاجئ فيها هو الّذي يوجّه الاتّهام".

لقد اخترت هاتين الشهادتين من طرف العدوّ لأنّ اعترافه بذلك يعني الكثير. من هذه الناحية، لا أعتقد أنّ الخامس من حزيران كان حدًّا فاصلًا بالنسبة إليّ. على العكس، إنّ «رجال في الشمس» اكتسبت قيمة مضاعفة برأيي، أمّا «ما تبقّى لكم»، فهي في طريق كسب قيمتها المضاعفة، ذلك أنّ ما قالته هذه الرواية عام 1965 ما زال قائمًا، الآن أكثر حدّة منه في أيّ وقت مضى.

الشيء الوحيد الّذي يشكّل بالنسبة إليّ فارقًا، قبل حزيران وبعده، هو أنّني الآن أكثر انشغالًا، بالتالي أقلّ إنتاجًا في الميدان القصصيّ والروائيّ، وهذه حقيقة تؤلمني، مهما كانت المبرّرات الّتي استخدمها عادة بين وبين نفسي.

 

* يُنشر هذا الحوار ضمن ملفّ خاصّ يتزامن مع مرور خمسين عامًا على اغتيال الشهيد غسّان كنفاني على يد الاستعمار الإسرائيليّ، تُنْشَر موادّه على مدار شهر تّموز (يوليو) 2022.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.